مصر وفلسطين… تحالف التاريخ والمصير

بقلم /د. أحلام محمد أبو السعود
سفيرة الإعلام العربي والباحثة في الشؤون الفلسطينية
منذ فجر ثورة يوليو 1952، جسّدت مصر دورًا محوريًا في الدفاع عن القضايا القومية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي اعتبرتها دومًا جوهر الصراع العربي مع الاستعمار والاحتلال. قاد جمال عبد الناصر ثورة الضباط الأحرار ليعلن ميلاد عهد جديد، تكون فيه مصر رأس الحربة في مواجهة المشروع الصهيوني والهيمنة الغربية، وامتد أثرها ليُشعل جذوة التحرر في ربوع الأمة العربية.
أنشأ مجلس قيادة الثورة الذي ضم رموزًا وطنيين مثل أنور السادات، وعبد الحكيم عامر، وكمال الدين حسين، وحسن إبراهيم، وامتزج العمل العسكري بالرؤية القومية في لحظة مصيرية من تاريخ العرب. في تلك الحقبة التي سُميت بـ”الناصرية”، انتشر الفكر القومي كوسيلة ردع ومقاومة في وجه جرائم العصابات الصهيونية التي هجّرت شعبًا بأكمله، وارتكبت المجازر في القرى الفلسطينية، في ظل صمت العالم وتآمر القوى الاستعمارية.
أصبحت فلسطين القضية المركزية في خطاب عبد الناصر، وسرعان ما تحوّل الدعم السياسي إلى دعم ميداني. في أجواء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، بدأت البذور الأولى للعمل الفدائي الفلسطيني من أرض مصر، حين التقى ياسر عرفات ورفاقه أبو جهاد وأبو إياد في القاهرة، وبدعم مباشر من عبد الناصر، تأسست نواة العمل الفدائي المسلح، وفتحت لهم معسكرات التدريب وأمدّتهم مصر بالسلاح والدعم الكامل، ليتحوّل الشعار إلى حقيقة:
“فلسطين طريق الوحدة، والوحدة طريق فلسطين.”
السادات… المقاتل والمفاوض
بعد وفاة عبد الناصر، تولّى أنور السادات المسؤولية في مرحلة دقيقة من تاريخ الأمة، وسط تحديات جسيمة. وعلى الرغم من الانفتاح السياسي الذي انتهجه، إلا أن فلسطين بقيت حاضرة في وجدانه وقراراته. ففي حرب أكتوبر 1973، كانت فلسطين شريكًا في المعركة، وشاركت الفصائل الفلسطينية على الجبهتين المصرية والسورية، في وقت حققت فيه مصر نصرًا عسكريًا قلب الموازين.
ورغم ما أثارته اتفاقية كامب ديفيد من جدل، فإن السادات أكد في أكثر من موقف أن الحل العادل للقضية الفلسطينية هو مفتاح السلام الحقيقي، واشترط انسحاب الاحتلال من جميع الأراضي المحتلة، بما فيها القدس، وقيام الدولة الفلسطينية. كما كانت مصر أول من فتح الطريق للقيادة الفلسطينية لتُطرح قضيتها على الساحة الدولية.
مبارك… الداعم المستمر والحامي السياسي للقضية
مع وصول محمد حسني مبارك إلى الحكم عام 1981، واصل النهج المصري الداعم للقضية الفلسطينية، ولكن بأسلوب يجمع بين الهدوء السياسي والفاعلية الدبلوماسية. لعب مبارك دورًا مهمًا في دعم منظمة التحرير الفلسطينية، وفتح أبواب مصر للفصائل، واحتضن الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 سياسيًا وإعلاميًا، وكان داعمًا لـالانتفاضة الثانية في العام 2000.
وعندما اندلعت المواجهات في الأراضي المحتلة، كانت القاهرة بوابة الفلسطينيين إلى العالم، واستضافت المؤتمرات العربية والدولية لمناصرة قضيتهم. كما لعب مبارك دور الوسيط المحوري في اتفاق أوسلو، وحاول ضمان ألا تكون التسوية على حساب الحقوق الوطنية الفلسطينية.
وفي أصعب اللحظات، كان لمصر موقف حاسم، كما في عدوان غزة 2008-2009، حين سعت لوقف العدوان، وفتحت معبر رفح أمام الجرحى، وشاركت في جهود إعادة الإعمار. رغم الضغوط، تمسّكت مصر بموقفها الداعم لحل الدولتين، وبأن القدس عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة.
السيسي… صمّام الأمان ومُفشّل صفقة التهجير
مع تولّي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم عام 2014، دخل الدور المصري مرحلة جديدة من الحسم والتأثير، حيث أكّد أن فلسطين قضية مركزية في ضمير مصر، وأن السلام العادل لن يتحقق إلا بزوال الاحتلال. تجلى هذا الدور بوضوح خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في 2014 و2021 و2023، حيث تحركت مصر إنسانيًا وسياسيًا.
فتح السيسي معبر رفح دون شروط، واستقبل الجرحى في مستشفيات العريش والقاهرة، وأرسل المساعدات عبر جسر بري وجوي، وأطلق مبادرة “مصر في قلب غزة” لإعادة الإعمار، دون أن يُشترط على الفلسطينيين ترك أرضهم أو الخضوع لأي مساومة.
وكان الموقف المصري حازمًا وواضحًا في رفض مخططات التهجير القسري التي حاولت بعض القوى الدولية فرضها، وعلى رأسها الولايات المتحدة في عهد الرئيس ترامب، من خلال ما عُرف بـ”صفقة القرن”، والتي كانت تهدف بشكل غير مباشر إلى تصفية القضية الفلسطينية مقابل وعود اقتصادية وتحسينات إنسانية.
رفض الرئيس السيسي تمامًا أن تكون مصر ممرًا أو موطئ قدم لتنفيذ هذه المؤامرة، وأعلن بكل صراحة:
“مصر لن تسمح بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، ولن تكون شريكًا في تصفية القضية الفلسطينية.”
هذا الموقف التاريخي الشجاع شكّل حائط صدّ عربيًا في وجه الاحتلال، وفضح نوايا التهجير وأفشل أحد أخطر المشاريع التي استهدفت اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم.
كما قاد السيسي جهود التهدئة بين الفصائل، ورعى لقاءات المصالحة الوطنية الفلسطينية في القاهرة، انطلاقًا من قناعة أن وحدة الصف الفلسطيني هي سلاح المقاومة الأقوى، وأساس أي تحرك نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
خاتمة: مصر… القلب النابض لفلسطين
من عبد الناصر إلى السادات إلى مبارك والسيسي، سارت مصر في طريق لا يعرف التراجع، طريق الدعم والإسناد للقضية الفلسطينية. تنوّعت الوسائل، وتبدّلت الظروف، لكن الروح المصرية لم تتغيّر، فكانت مصر على الدوام سندًا للشعب الفلسطيني، في الميدان والسياسة، في الإعمار والمصالحة، في الحرب والسلام.
ستظل مصر وفلسطين وطنين بروح واحدة، يشدّ أحدهما أزر الآخر، حتى تتحقق الحرية والعودة، وتُقام الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس.