أخبار فلسطين
أخر الأخبار

مجزرة المساعدات: كيف تحوّلت الإغاثة في غزة إلى مصائد موت ممنهجة؟

 

بقلم: د. أحلام أبو السعود – سفيرة الإعلام العربي، وباحثة في الشؤون الفلسطينية

لم تعد المأساة في غزة مجرد استهداف للمدنيين، ولا يمكن تصنيفها ضمن تقلبات الحروب أو تبعات النزاعات، بل تجاوزت ذلك إلى مشروع إبادة ممنهج، مدروس التفاصيل، محكم التنفيذ، يتخفّى تحت أقنعة “العمل الإنساني” بينما يحمل أدوات الموت في كل شحنة وفي كل نقطة توزيع.

منذ أن بدأت عمليات ما سُمي بـ”إسقاط المساعدات جواً” في مناطق مختلفة من غزة، بدا واضحًا أن اليد التي ترمي الخبز هي ذاتها التي تضغط على الزناد. إذ تحوّلت هذه المساعدات إلى مصائد مدمّرة. فالنقاط التي كان يتم الإعلان عنها كمواقع إسقاط أو توزيع كانت تُقصف فور تجمهر المدنيين حولها، في مشهد يوحي بأن التخطيط كان متعمدًا لاستدراج أكبر عدد ممكن من الجائعين ثم تنفيذ المجزرة. وهذا ما أطلقت عليه عدة تقارير وتحقيقات عنوان “كمائن المساعدات”.

ولا تتوقف المأساة عند الجو. فالطرقات البرية المؤدية إلى غزة تحوّلت هي الأخرى إلى خطوط موت، حيث تقصف الشاحنات المحملة بالمساعدات قبل وصولها، أو تُترك عرضة للنهب والسلب من قبل عصابات فوضوية محمية ضمنيًا، يتم استخدامها كورقة ضغط لخلق فوضى اجتماعية داخلية، تمهّد لسيناريوهات أشد قسوة.

وبحسب تقارير متقاطعة، فإن ما يسمى بـ”شركة المساعدات الأميركية” العاملة في رفح، والتي بدأت نشاطها تحت غطاء إنساني، تبيّن أنها واجهة لشبكة صهيونية ذات تمويل إسرائيلي مباشر، وفقًا لتصريحات صادرة عن مسؤولين إسرائيليين أنفسهم. هذه الشركة، ومنذ بدء نشاطها، تزامن وجودها مع مجازر جماعية بحق المدنيين الذين تجمهروا عند نقاط التوزيع، ليجدوا أنفسهم تحت وابل من القصف بدلًا من تلقي الخبز أو الدواء.

والأدهى أن الاحتلال، الذي يدير العملية من ألفها إلى يائها، يسعى لتقويض أي شبكة دعم شعبي أو إنساني بديل، عبر تجنيد عملاء محليين، أو الضغط على المحتاجين ليكونوا جزءًا من “الطابور الخامس” الذي يشي، ويُرهب، وينهب، ويخلق فوضى تبرّر لاحقًا مزيدًا من القمع والبطش.

إن ما يحدث ليس حالة إنسانية حرجة فحسب، بل مشروع إبادة مزدوج: قتل مباشر بالقصف، وقتل غير مباشر بالتجويع والحرمان والفوضى. لقد أصبحت غزة – تلك البقعة المحاصرة بين الموت واللاشيء – نموذجًا لجريمة ضد الإنسانية على مرأى ومسمع من العالم، تُرتكب باسم “المساعدات الإنسانية”.

إن طوفان الموت الذي يجتاح غزة ليس مجرد عمل عسكري، بل مخطط طويل الأمد لإفراغ الأرض من سكانها، إما قتلاً أو تهجيرًا. كل نقطة توزيع مساعدات تُقصف، وكل شاحنة تُعرقل، وكل طفل يموت جوعًا، هي دليل على أن الهدف ليس فقط احتلال الأرض، بل تدمير الشعب الفلسطيني نفسيًا وجسديًا ومعنويًا.

ورغم كل ذلك، لا تزال غزة تقاوم. تصارع الجوع بالقيم، والموت بالكرامة، والخذلان بالصبر. لكن إلى متى؟ ومتى يتحرك الضمير العالمي؟

إن ما يحدث اليوم في غزة هو محكٌ حقيقي للإنسانية، ومؤشر على مستوى الانحدار الأخلاقي الذي وصله النظام العالمي. فالسؤال لم يعد: من يقتل؟ بل: من يتواطأ بالصمت؟ من يغض الطرف؟ من يبيع دماء الأبرياء تحت عناوين الشراكة أو الصداقة أو المصالح؟

إننا اليوم أمام مسؤولية تاريخية؛ فإما أن نقف مع الحقيقة، أو نصبح شريكًا في المجزرة. فغزة ليست فقط قضية فلسطينية، بل هي مرآة الإنسانية، وانعكاس صارخ لحقيقة أن ما يسمى بـ”القانون الدولي” بات مجرد غطاء رثّ لجرائم ترتكب بدم بارد، تحت ظلال الطائرات وصمت المنظمات.

لقد تحوّلت غزة من “أكبر سجن مفتوح” إلى “أكبر مقبرة جماعية معلنة”، وفي داخلها أكثر من مليوني فلسطيني يصارعون ليس فقط القنابل والجوع، بل الحصار النفسي والخذلان العربي والعالمي.

لذلك، لا بد من وقفة. لا بد من كلمة. لا بد من كسر الحصار عن الحقيقة أولاً، لأن الطوفان الصهيوني الذي بدأ في غزة لن يتوقف عند حدودها.

سفيرة الإعلام العربي والباحثة في الشؤون الفلسطينية د.أحلام أبو السعود /غزة /فلسطين 

script async src="https://pagead2.googlesyndication.com/pagead/js/adsbygoogle.js?client=ca-pub-6898956440328841" crossorigin="anonymous">
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى