
كتبت / رنيم علاء نور الدين
في أحد المراكز البيولوجية شديدة الحراسة، خلف أبواب محكمة الغلق لا يدخلها إلا القليل، ترقد أجساد أكثر من ثلاثمئة إنسان داخل أنابيب معدنية عملاقة، مغمورة في درجات حرارة تصل إلى مئة وست وتسعين درجة مئوية تحت الصفر، بانتظار يوم لا أحد يعلم إن كان سيأتي. هذه ليست مشاهد من رواية خيال علمي، بل واقع قائم منذ عقود، يرتكز على فكرة واحدة: تجميد الجسد بعد الوفاة على أمل أن تسمح تقنيات المستقبل بإعادته إلى الحياة…… و يبقى سؤال واحد كيف ظهرت تلك الفكرة ؟.
ظهرت فكرة التجميد الحيوي لأول مرة بشكل علني عام 1962، حين نشر الفيزيائي الأمريكي روبرت إتينجر كتابه “آفاق الخلود”، مؤسسًا لنظرية مفادها أن الموت ليس نهاية حتمية، بل حالة طبية قابلة للإرجاع إذا تم التعامل معها في الوقت المناسب. دعا إتينجر حينها إلى تجميد البشر بعد وفاتهم مباشرة، قبل حدوث التحلل الكامل، من أجل الحفاظ على خلاياهم من التلف، على أمل أن يتطور العلم في المستقبل ليصبح قادرًا على علاج أسباب الوفاة، أو حتى إعادة تنشيط الدماغ، وبالتالي إحياء الشخص من جديد.
رغم الجدل الواسع الذي أثاره طرحه، فإن الفكرة جذبت فئة صغيرة من المؤمنين بالتكنولوجيا والرافضين للاستسلام للموت، ما دفع إتينجر لتأسيس أول معهد متخصص في التجميد الحيوي. وما بدا للبعض حينها كضرب من الجنون، تحوّل تدريجيًا إلى مشروع حقيقي قائم في الولايات المتحدة وروسيا، حيث بدأت مؤسسات متخصصة في استقبال طلبات تجميد الجثث، مقابل مبالغ ضخمة تراوحت بين ثمانين ومئتي ألف دولار للحالة الواحدة.
الغريب أن روبرت إتينجر نفسه خضع لهذا المصير بعد وفاته في عام 2011، إذ تم تجميده وفق البروتوكولات ذاتها التي صممها، ليصبح من بين أولئك الذين دخلوا في سباتٍ مجهول النهاية، معلّقين بين الموت والحياة.
وتتم العملية على مراحل دقيقة تبدأ مباشرة بعد إعلان الوفاة. حيث يُضخ في الجسم سوائل مانعة للتجلط، ثم يتم استبدال الدم بسوائل كيميائية مخصّصة للحفاظ على الخلايا. بعدها يُخفض الجسم تدريجيًا حتى يصل إلى درجة التجميد النهائية، ثم يُخزن داخل حاويات معدنية مملوءة بالنيتروجين السائل، في وضعية مقلوبة لتقليل الضغط على الدماغ. بعضهم يختار تجميد جسده بالكامل، بينما يفضل آخرون تجميد الدماغ فقط، في رهانٍ آخر على احتمالية استنساخ الجسد مستقبلًا أو تحميل الوعي على أجهزة رقمية متطورة.
ورغم أن عدد المجمدين لا يزال محدودًا، فإن عدد الراغبين في التجميد يتزايد تدريجيًا، وتزداد معه حالات الدفع المسبق مقابل حجز مكانٍ في هذا “الانتظار الأبدي”.
لكن الأوساط العلمية تكاد تُجمع على أن هذه الممارسة لا تتعدى كونها خيالًا مبنيًا على الأمل، إذ لم تُسجل أي حالة واحدة حتى اليوم نجحت في العودة للحياة بعد التجميد. بل إن معظم العلماء يؤكدون استحالة الفكرة من الأساس. إذ يؤدي تجميد الخلايا البشرية إلى تكسرها نتيجة تكوّن بلورات الجليد بداخلها، وهو ضرر لا يمكن إصلاحه حتى باستخدام أكثر التقنيات تطورًا. ويُحذر عدد كبير من الباحثين من تقديم أمل كاذب للناس، وتحويل الخوف من الموت إلى سلعة تباع بمبالغ باهظة.
الدكتور ريتشارد بيل، الباحث في علوم الأعصاب بجامعة كولومبيا، يصف التجميد الحيوي بأنه “مقبرة تقنية”، ويضيف: “نحن لا نعرف حتى الآن كيف نعيد إحياء فأر بعد تجميده، فما بالك بإنسان! التجميد يدمّر أنسجة المخ ولا يمكن بأي حال إعادة الوعي أو الذكريات بعد تحلل الروابط العصبية.”
أما الجانب الأخلاقي والديني فله موقف أكثر حسماً. إذ ترفض العديد من المؤسسات الدينية حول العالم هذه الممارسة، وتعتبرها تشويهًا لمفهوم الموت وتجاوزًا لحدود الطبيعة والقدر. وفي بعض الدول، يُنظر إلى تجميد الجثث باعتباره مخالفة قانونية لكونه يعلّق إعلان الوفاة الحتمي، ويعقّد الإجراءات المرتبطة بالإرث والوصايا والجنازات.
ورغم كل هذه العقبات، تبقى الفكرة قائمة ومستمرة، قائمة على إيمان دفين بأن المستقبل قد يحمل مفاجآت لم نحلم بها، وأن الأمل، مهما بدا ضعيفًا، أقوى من الحقيقة أحيانًا. يقول أحد المجمدين في وصيته المكتوبة: “إذا استيقظت يومًا ما، أتمنى أن أجد عالمًا يستحق العودة إليه.”
بينما يظل الواقع يكرر الحقيقة القاسية: لم يستيقظ أحد… ولا يبدو أن أحدًا سيستيقظ قريبًا.
وهنا، تظل الأسئلة معلقة مثل أجساد أصحابها:
هل أصبح “الخلود” تجارة جديدة… أم وهمًا يُباع لمن يملكون المال والخوف معًا؟
هل يمكن أن يأتي اليوم الذي يُبعث فيه من جُمدوا… أم سيظلون مجرّد جثث معلّقة في أوهام المستقبل؟
هل نحن فعلاً نبحث عن الحياة… أم نهرب من فكرة الموت؟
وماذا لو كنت أنت تملك فرصة لتجميد جسدك… هل كنت ستغامر بالانتظار؟