هبة سليم: من قاعات باريس إلى حبل المشنقة
كتبت نور يوسف
تُعد هبة عبد الرحمن سليم واحدة من أبرز الشخصيات التي أثارت الجدل في تاريخ التجسس العربي، كونها أول جاسوسة عربية عملت لصالح الموساد الإسرائيلي، متسببة بخسائر جسيمة للجيش المصري في فترة حرجة من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. قصة تجنيدها، خيانتها، ودورها الكبير في كشف أسرار عسكرية مهمة، تعكس حكاية الخداع، التأثير، والنتائج الوخيمة للخيانة على أمن الدول.
البداية في باريس: الطريق إلى الجاسوسية
ولدت هبة سليم لعائلة مصرية ميسورة الحال. كان والدها يعمل وكيلا لوزارة التربية والتعليم، ووفرت لها عائلتها كل سبل التعليم الجيد. بعد حصولها على شهادة الثانوية العامة عام ١٩٦٨، ألحت هبة على والدها للسفر إلى باريس لإكمال دراستها الجامعية، حيث رأت في السفر فرصة للحصول على تعليم أفضل والاستمتاع بالحياة الأوروبية المنفتحة.
في باريس، وفي أجواء الحرية والانفتاح، بدأت مسيرتها نحو عالم الجاسوسية. خلال دراستها هناك، التقت بفتاة يهودية بولندية لتبدأ معها علاقة صداقة وثيقة، أصبحت من خلالها على اتصال بمجموعة من الشباب اليهود الذين كانوا يعيشون في فرنسا. كان هذا التواصل نقطة تحول كبيرة في حياة هبة سليم.
مع مرور الوقت، تعرضت هبة لتأثيرات ثقافية وإعلامية مكثفة من هؤلاء الأصدقاء اليهود. عرضوا عليها أفلامًا وثائقية عن إسرائيل، تُظهر حياة الكيبوتس (المستعمرات الزراعية الجماعية) وصوروا الإسرائيليين على أنهم ليسوا كما يصفهم الإعلام العربي، بل على أنهم شعب متحضر وديمقراطي. هذه الأفكار دفعتها إلى تغيير قناعاتها تدريجيًا، حتى أصبحت ترى أن إسرائيل هي القوة الأقوى في المنطقة، وأن العرب لا يمكنهم التفوق عليها.
التجنيد وخيانة الوطن
لم يقتصر دور هبة سليم على تغيير معتقداتها فقط، بل تعدى ذلك إلى العمل الفعلي لصالح إسرائيل، عندما تم تجنيدها من قبل الموساد. لم تُغْرَ هبة بالمال، بل كان دافعها قائمًا على قناعات شخصية، بأنها تخدم قضية إسرائيل القوية.
أثناء زياراتها المتكررة لمصر، تمكنت هبة من تجنيد المقدم فاروق عبد الحميد الفقي، الذي كان يشغل منصبا حساسا في الجيش المصري، حيث كان مدير مكتب قائد سلاح الصاعقة. استغلت هبة حب الفقي لها، والذي كان يعشقها بلا حدود، لتجمع منه معلومات عسكرية شديدة الأهمية، خاصة عن منصات الصواريخ المصرية من نوع “سام ٦” التي كانت تهدف لحماية العمق المصري من الغارات الجوية الإسرائيلية. هذه المعلومات كانت حيوية لإسرائيل في حربها ضد مصر.
كشف الخيانة
رغم دقة عمليات التجسس، فإن المخابرات المصرية تمكنت من كشف الخيانة التي كان يقوم بها فاروق الفقي بتسريب المعلومات الحساسه إلى إسرائيل، بعد تكرار تدمير منصات الصواريخ الجديدة من قبل الطيران الإسرائيلي، قبل أن تكتمل تجهيزاتها. الشكوك حول وجود عميل عسكري داخل الجيش المصري زادت مع مرور الوقت.
بعد القبض على الفقي، تم استجوابه واعترف بكل تفاصيل خيانته وعلاقته بهبة سليم. لكن بدلاً من إيقافه على الفور، قررت المخابرات المصرية استغلال الموقف بذكاء، من خلال خطة خداعية معقدة. استمر الفقي في إرسال معلومات مزيفة إلى إسرائيل، بينما كانت المخابرات الحربية تراقب تحركاته وتوجهه، ما أوقع القيادة الإسرائيلية في الفخ المصري.
القبض على هبة سليم
بعد اكتشاف الخيانة، وضعت المخابرات المصرية خطة لاستدراج هبة سليم إلى مصر. تم ذلك بالتعاون مع السلطات الليبية، حيث كانت هبة تخطط لزيارة والدها في ليبيا. اعتقلت هناك وتم نقلها إلى القاهرة بسرعة دون أن تدرك أنها محاصرة.
عُرضت هبة سليم على المحكمة المصرية، حيث اعترفت بجريمتها كاملة وتم الحكم عليها بالإعدام شنقًا. بكت رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير على هبة سليم، ووصفتها بأنها قدمت لإسرائيل خدمات تفوق ما قدمه زعماء إسرائيل.
إعدام هبة سليم
رغم الضغوط الدولية، بما في ذلك تدخل وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر لمحاولة إنقاذها، رفض الرئيس المصري أنور السادات أي وساطة لتخفيف الحكم. خلال زيارة كيسنجر للقاهرة، أخبره السادات بأن حكم الإعدام قد نُفذ بالفعل في الليلة السابقة، رغم أن هذا لم يكن صحيحًا في تلك اللحظة. أدرك السادات أن وجود هبة سليم قد يشكل عقبة في طريق السلام، فأمر بتنفيذ الحكم على الفور.
تم إعدام هبة سليم في سرية تامة، وأسدل الستار على قصة الجاسوسة التي خيّبت آمال وطنها وأبهرت قادة إسرائيل بخدماتها.
تركت قصة هبة سليم أثرًا كبيرًا في الثقافة المصرية، وتم تجسيدها في الفيلم المصري “السقوط إلى الهاوية”، حيث قامت الفنانة مديحة كامل بدور الجاسوسة تحت اسم “عبلة”. أصبحت الجملة الشهيرة التي قالها ضابط المخابرات المصري في الفيلم، “دي مصر يا عبلة”، رمزًا لاستعادة مصر لكرامتها من خلال محاربة الخيانة.
قصة هبة سليم ليست مجرد حكاية جاسوسة، بل هي درس عن العواقب الوخيمة للخيانة وكيف يمكن للأفكار أن تتحول إلى أفعال تضر بوطن كامل. حكايتها لا تزال تُروى حتى اليوم كواحدة من أبرز قصص الجاسوسية في التاريخ المصري الحديث، وتؤكد على أهمية الولاء والانتماء للوطن.