أدب وثقافة

في غزة… حيث لا يموت الشهداء، بل يغيّرون عناوينهم.

بقلم الشاعرة والكاتبة الفلسطينية

سفيرة الإعلام العربي 

د. أحلام أبو السعود 

في غزة… حيث لا يموت الشهداء، بل يغيّرون عناوينهم.

في ركن من أركان الخيمة، تجلس أم الشهيد، لا تبكي، فقد جفّ الدمع، ولا تصرخ، فقد ارتجّ الصدى، فقط تحدّق في صورةٍ قديمةٍ، وكأنها تحادث وجهًا غاب في غفلة زمن.

وجهها محفور بالتجاعيد، كلّ خطّ فيه يحكي وداعًا، كلّ تجعيدة فصلٌ من قصة فداء.

هي ليست امرأة عادية، بل بوصلة الوطن، الأم التي لم تكتفِ بفقد واحد، بل قدّمت أبناءها واحدًا تلو الآخر، وضمّدت قلبها بالدعاء، ورفعت كفها للسماء كأنها تقول:

يا رب، ما أبقيت لي إلا الإيمان، فلا تحرمني الصبر.

بجوارها…

الطفل الناجي الوحيد، يحمل بين عينيه ألف سؤال، وبداخله فراغ بحجم المخيم.

كان يوم العيد، يبحث عن يده الصغيرة في يد أبيه، عن ضحكة أمه، عن ظل شقيقه… فلم يجد إلا الردم.

طفل لم يحتفل بعيد، ولم يتذوّق طعم الطفولة إلا في صور.

ينام وهو يحتضن حجرًا، لأنه آخر ما تبقّى من البيت.

ومع هذا، يُقبّل جبهته كل صباح، ويهمس لنفسه:

أنا حيّ، لأنني يجب أن أروي الحكاية.

أما الشهداء…

فهم ليسوا تحت التراب، بل فوق رؤوسنا، يعلّموننا كيف نحيا.

يصيرون أسماءً لطرقاتٍ بلا طرق، وصورًا على جدرانٍ لا تزال واقفة رغم ما فيها من شقوق.

أصواتهم تسكن الهواء، نظراتهم في عيون أمهاتهم، وابتسامتهم في وجه كل مقاوم.

والمخيم…

ليس مكانًا، بل ذاكرة.

كل حجر فيه يحفظ اسمًا، كل زقاق يحمل وصية، كل حبل غسيلٍ يمتدّ كأنه يرفع راية النصر.

المجاري تسير في العلن، لكن الكرامة تمشي في الخفاء، لا تطلب إذنًا من أحد، ولا تنحني أمام العالم.

في المساء، حين يخبو الضجيج، تسمع أنين الجدران، وتنهيدة الأرامل، وهمسة العاشقين الذين لا يملكون سوى الحلم موعدًا.

لكن غزة، يا الله…

تنهض في كل فجر كأنها لم تُقصف، كأنها لا تعرف الحزن، كأنها مدينة من نور تتنكّر في هيئة خراب.

غزة…

ليست مدينة، بل فكرة.

ليست أرضًا، بل رسالة.

هي جرحٌ لا يندمل، لأنه يذكّر الأحرار بواجبهم.

هي قصيدة معلّقة بين السماء والأرض، لن تُنسى… ما دام في هذا العالم قلب ينبض.

script async src="https://pagead2.googlesyndication.com/pagead/js/adsbygoogle.js?client=ca-pub-6898956440328841" crossorigin="anonymous">
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى