تحقيقات وتقارير
أخر الأخبار

ترييف القاهرة… حين تفقد المدينة ذاكرتها

كتب :معتز صدقي 

في قلب القاهرة، حيث التاريخ يتنفس من بين جدرانها، والفن يتسلل من شبابيكها القديمة، يُطلّ مشهد يومي يبعث على الأسى: قمامة متناثرة على الأرصفة، أكياس بلاستيكية تسبح في الهواء، وروائح تُنازع عبق الماضي.

هذه ليست مشاهد استثنائية، بل أصبحت مشهدًا معتادًا في العديد من شوارع العاصمة وضواحيها. من المطرية إلى شبرا، ومن المعادي إلى المرج، يتحول المشهد المدني تدريجيًا إلى نسخة مشوّهة من الريف المهمل، دون بريقٍ أو هوية.

عندما تُريّف المدينة

“ترييف المدن” لا يعني فقط دخول أنماط بناء عشوائية أو غياب التخطيط العمراني؛ بل هو تحوّل ثقافي واجتماعي يُفقد المدينة روحها.

حين يُلقي المارة قمامتهم دون اكتراث، وحين تصبح الأرصفة أسواقًا شعبية مرتجلة، ويتوقف الناس عن الإحساس بالجمال العام، تكون المدينة قد فقدت أحد أهم مقوّماتها: الوعي الجمعي.

هل هي أزمة نظافة؟ أم أزمة انتماء؟

القضية تتجاوز مجرد أزمة نظافة، فهي في جوهرها أزمة انتماء.

حين يشعر المواطن أن الشارع ليس “شارعه”، وأن المدينة ليست بيته، لن يتردد في تلويثها. النظافة هنا ليست سلوكًا فرديًا، بل انعكاس لثقافة عامة تتراجع أمام مظاهر الترييف والفوضى.

ماذا فعلت مدن أخرى؟

رواندا، التي عانت من حروب أهلية وفقر مدقع، أصبحت اليوم واحدة من أنظف دول إفريقيا بفضل حملات توعية وطنية شاملة، وتطبيق صارم للقوانين، ويوم شهري يُشارك فيه المواطنون في تنظيف مدنهم.

سنغافورة، التي تحوّلت من دولة فقيرة إلى أيقونة حضارية، فرضت غرامات باهظة على من يُلقي القمامة، وربطت بين السلوك المدني والانتماء الوطني.

كوبنهاغن وبرشلونة نجحتا في ربط مظهر الشارع بشعور الفرد بالراحة النفسية، فتم الاستثمار في المساحات الخضراء وسلال القمامة الذكية التي ترسل تنبيهات عند امتلائها.

القاهرة تستحق فرصة ثانية

القاهرة ليست مدينة عادية، بل متحف مفتوح، وضواحيها تحمل ملايين القصص والوجوه والتجارب. 

لكنها اليوم تحتاج إلى:

حملات توعية شعبية بلغة بسيطة وحقيقية، تُشعر المواطن أن المدينة مرآة له.

تطبيق القوانين دون استثناءات، فالردع مهم بقدر التوعية.

برامج تعليمية في المدارس تُرسّخ مفهوم “الحي بيتك الثاني”.

مشاركة المجتمع المدني والإعلام في خلق سردية إيجابية تحفّز السلوك الجيد بدلاً من جلد الذات.

القاهرة لا تحتاج إلى تجميل شكلي، بل إلى صحوة سلوكية وثقافية.

وإذا كانت بعض العواصم قد بدأت من تحت الصفر ونجحت، فـ القاهرة التي بدأت من فوق التاريخ… أولى بالعودة.

script async src="https://pagead2.googlesyndication.com/pagead/js/adsbygoogle.js?client=ca-pub-6898956440328841" crossorigin="anonymous">
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى