
كتبت / رنيم علاء نور الدين
كانت رائحة الموت أول ما لاحظه الجيران في العقار رقم 47 بشارع محمد نجيب بمنطقة دار السلام، جنوب القاهرة. رائحة غريبة، ثقيلة، لم تكن من نوع الروائح المعتادة في حي شعبي مزدحم بالسكان، لكنها كانت أقرب لما يشبه نداء من تحت الأرض. ما لم يكن يعرفه أحد في تلك اللحظة، هو أن أربعة أجساد كانت مدفونة بالفعل داخل خزان مياه مغلق أسفل سلم العقار، والجاني لم يكن غريبًا، بل كان “الابن”.
أحمد (32 عامًا)، مهندس مدني، عاش في الدور الأول من منزل العائلة. من يراه، لا يشك في هدوئه أو رصانته. شاب متعلم، من أسرة بسيطة، والده موظف بالمعاش يُدعى عبد الله، ووالدته ربة منزل اسمها عفاف، وشقيقه الأصغر محمود، طالب جامعي متفوق. أما صديقه محمد، فكان مقربًا من العائلة، يزورهم باستمرار وينام أحيانًا في المنزل. لكن داخل أحمد، كان شيء آخر يتكوّر بصمت… طمع، غضب، إحساس دائم بالظلم، ونقمة على أسرته التي رأى أنها السبب في تعاسته.
كانت هناك خلافات متكررة بين أحمد ووالده، بحسب ما ذكر الجيران في التحقيقات. الأب رفض أكثر من مرة أن يتنازل عن ممتلكاته لابنه، خاصة بعد أن لاحظ تبذيره وكسله. أحمد، الذي لم ينجح في مشروعاته الخاصة، كان يرى أن من حقه أن يسيطر على الشقة والأرض في بني سويف التي ورثها والده. وبدأ في الضغط عليه لتحرير “شهادة مبايعة”، وهي حيلة قانونية تخوّله امتلاك العقار.
في مساء يوم الأربعاء، 6 ديسمبر 2023، اتخذ أحمد قراره. أغلق هاتفه، وانتظر لحظة مناسبة. كانت والدته في المطبخ، ووالده يشاهد التليفزيون في غرفة المعيشة. دخل عليه بهدوء، لف حبلًا غليظًا حول رقبته، وشده بقوة حتى توقف عن التنفس. سقط جسد الأب ساكنًا، لكن أحمد لم يتوقف.
دخل على والدته التي سمعته يجرّ شيئًا على الأرض، وقبل أن تصرخ أو تفهم، طعنها بسكين المطبخ في عنقها ثلاث مرات. لم تكن الطعنة الأولى مميتة، لكنها شلّت حركتها. سقطت أرضًا، فأجهز عليها.
بعد دقائق، عاد محمود من الجامعة. صُدم حين رأى الدماء تسيل من تحت باب الصالة. دخل مذعورًا، لم يكن يتخيل أن يواجه شقيقه وفي يده السكين. اندفع ليركض إلى الخارج، لكن أحمد لحق به قبل أن يصل للباب، وطعنه في ظهره، ثم في جانبه الأيسر. توقف قلب محمود على بعد خطوة من النجاة.
الصدفة لعبت دورًا مأساويًا حين قرر صديق أحمد، محمد، الحضور في نفس الليلة. كان يتردد عليهم كثيرًا، ويعرف أدق تفاصيل المنزل. دخل وهو يضحك، فوجئ بالصمت، ورائحة الدم، ثم ظهر أحمد أمامه، شاحب الوجه، وعلى يديه آثار الدماء. حاول محمد الهرب، لكنه كان قد دخل المصيدة. قتله أحمد أيضًا.
استغرق تنظيف المكان أكثر من ثلاث ساعات. لفّ الجثث في أغطية سرير قديمة، ونقلها لأسفل السلم حيث يوجد خزان مياه غير مستخدم. فتح الغطاء الحديدي، وأسقط الجثث واحدة تلو الأخرى، ثم رشّ فوقها الجير الحي لإخفاء الرائحة. أغلق الغطاء، وصعد للطابق الثاني، تناول كوب شاي، ودخل لينام.
لكن الرائحة كانت أقوى من الجير.
في اليوم التالي، بدأ الجيران يشمون شيئًا غريبًا. سألوا عن العائلة، فقال أحمد إنهم سافروا فجأة إلى البلد. لكن أحد الجيران كان قريبًا من الأب، وعرف أنه لم يكن يخطط لأي سفر. بعد يومين، ومع تصاعد الرائحة، أُبلغت الشرطة.
رجال المباحث وصلوا، فتشوا المكان، واستجوبوا أحمد الذي بدا مرتبكًا. ادّعى أن الخزان مغلق من سنين ولا يُستخدم. لكن بعين خبيرة، لاحظ أحد الضباط أن الغطاء عليه علامات فتح حديثة. وبمجرد رفعه، كانت الصدمة.
جثث الأب والأم والأخ والصديق ملقاة فوق بعضها، ملفوفة في البطاطين، وعليها بقايا الجير. لم يحاول حتى دفنهم بإحكام.
في التحقيق، انهار أحمد. قال: “كلهم كانوا ضدي… كل حاجة كنت بطلبها بيرفضوها… حتى حقي كنت بشحته منهم”.
واجهت النيابة أحمد بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار لأربعة أشخاص، واستدعيت فرق الأدلة الجنائية لمطابقة البصمات وتحليل موقع الجريمة. الجيران أصيبوا بصدمة، بعضهم ما زال يبكي على محمود الذي كان محبوبًا من الجميع. أما الأب، فكان، بحسب أقوالهم، رجلًا كريمًا لم يتأخر عن أحد.
بقى البيت مغلقًا، والجثث دفنت، لكن الجريمة لن تُنسى، لا في دار السلام… ولا في ذاكرة العدالة.