مقالات

غزة تنزف… والعالم في صمتٍ مُهين

بقلم: رباب خالد

منذ أكثر من عامٍ ونصف، وقطاع غزة يعيش تحت نيرانٍ لا تهدأ، وحصارٍ لا يرحم، وعدوانٍ لا يتوقف. آلاف الأرواح أُزهقت، ومعظمهم من المدنيين، من أطفال ونساء وشيوخ، وبيوت سُويت بالأرض، وأحلامٌ دُفنت تحت الأنقاض قبل أن تُولد. ومع ذلك، لا يزال الصمت العربي مخزيًا، والصمت الدولي أكثر فداحة وإيلامًا.

ما يجري في غزة ليس “عملية عسكرية” كما يُسوّق له الإعلام الغربي، بل هو عدوان سافر، وجريمة مكتملة الأركان تُرتكب على مرأى ومسمع ومباركة من العالم أجمع. آلاف الصور ومقاطع الفيديو، وأصوات استغاثات تُبثّ كل لحظة من قلب المجازر، ومع ذلك، لا تحرّك تلك المشاهد ساكنًا في ضمير هذا العالم المتحضر.

المجتمع الدولي، الذي يزعم الدفاع عن حقوق الإنسان، يقف مكتوف الأيدي أمام مأساة إنسانية بكل المقاييس. بل إن بعض القوى الكبرى تدعم هذا العدوان سياسيًا وعسكريًا، وتُصمّ آذانها عن صرخات الأطفال، وتُغلق أعينها عن أشلاء الأبرياء.

ولكن ما يُوجع أكثر من كل هذا، هو الصمت العربي الرسمي، ذلك الصمت الذي لا يشبه إلا العجز، أو التواطؤ، أو التهرب من المسؤولية. لم نرَ ردودًا تُعبّر عن الغضب الحقيقي، لم نسمع قرارات حاسمة، أو خطوات عملية تُترجم الدعم الكلامي إلى واقع. وكأن الدم الفلسطيني أصبح شيئًا معتادًا، لا يُحرّك المشاعر، ولا يُلهب الغضب.

والأدهى من ذلك كله، أن الشعوب ترى حكوماتها منشغلة بالمهرجانات، والحفلات، واستعراضات الترفيه، بينما رائحة الموت تفيح من غزة، والأرواح تُزهق مباشرة على الهواء. أي عربي هذا الذي لا تهزّه صورة طفل مكسو بدمائه؟ وأي “أخوّة” تلك التي لا تتحرك في وجه هذا الذبح الجماعي؟

أما عن الإعلام ولا أخفيكم سرًا فأنا أستحي مما يحدث في الإعلام حيث تغييب الإعلام العربي، والمصري تحديدًا، لهذه المأساة المستمرة. في وقتٍ كان يجب أن تكون فيه الشاشات مفتوحة لغزة، أصبح حضور القضية باهتًا، أو حتى غائبًا. يُترك الجمهور يلهث خلف مصادر أجنبية أو منصات التواصل الاجتماعي ليعرف ما يحدث، بينما الإعلام الذي نشأ ليكون لسان حال الأمة، اختار أن يُغمض عينيه، وكأن فلسطين ليست من قضايانا.

ثم تأتي المفارقة، حيث تنشغل بعض الدول العربية في التنافس على النفوذ، ومحاولة الظهور بمظهر “القوة”، وتناطح مصر سياسيًا في كل ملف، بدلاً من أن تجتمع على كلمة سواء. في وقتٍ تُقتل فيه غزة، صار شغلهم الشاغل كيف يبرز كل طرف على حساب الآخر، وكيف يُقصي مصر عن أي دور محوري. الكل يُناطح، والكل يزايد، والكل يُنظّر، بينما الأطفال يموتون، والنساء تُدفن أحياء.

ورغم كل ذلك، تبقى مصر – رغم ما تواجهه من ضغوط دولية هائلة – حاضرة في ملف القضية، تحاول الحفاظ على ما تبقى من الكرامة، وتسعى لتثبيت هدنة، وتأمين المساعدات، وفتح المعابر. لكن مصر وحدها لا تكفي. من الظلم أن نُحمّلها وحدها عبء أمة كاملة، بينما الآخرون منشغلون بالصورة، والمكانة، والمصالح.

القضية الفلسطينية ليست عبئًا، بل هي اختبار أخلاقي، وإنساني، وسياسي. وكل من يتجاهل هذا الاختبار، يسقط، مهما علا صوته أو كبرت دولته

غزة اليوم لا تحتاج فقط إلى المساعدات، بل إلى أن نكون صوتها. أن نكتب، ونُذكّر، ونصرخ. أن نُحرّك الرأي العام، ونكسر جدار الصمت. أن نعيد القضية الفلسطينية إلى الصدارة، لا كموضوع موسمي أو مناسبة سياسية، بل كقضية مركزية تمسّ وجدان كل عربي حر.

أذكركم بأن غزة لا تموت، بل تُعلّم العالم الحياة في حضرة الموت. لكننا نحن من نموت في صمتنا، في خذلاننا، في تبلّد مشاعرنا.

وإن لم نصرخ الآن، فمتى؟

script async src="https://pagead2.googlesyndication.com/pagead/js/adsbygoogle.js?client=ca-pub-6898956440328841" crossorigin="anonymous">
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى