
كتبت / رنيم علاء نور الدين
في تمام الثالثة فجرًا، في أحد شوارع حي المعادي الهادئة، كان الصمت يلف المكان، لولا صوت متقطع قادم من شقة في الطابق الثالث من إحدى العمارات القديمة. ضوء خافت كان ينبعث من نافذة صغيرة، والستائر تتحرك قليلاً مع تيار الهواء. لم يكن أحد يعلم أن وراء هذا الضوء، كانت هناك نهاية مأساوية تُكتب بحروف مرتجفة على ورقة مهترئة.
“سامحيني يا ماما، أنا تعبت من كل حاجة.”
كانت هذه أول جملة كتبَتها سلمى.
سلمى حسن، فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها، تعمل كاتبة محتوى في شركة صغيرة، وكانت طوال الأشهر الماضية تعيش في صراع نفسي صامت. كل شيء في حياتها كان يبدو طبيعيًا للوهلة الأولى، لكنها كانت تنزف من الداخل، وتكتب لنفسها رسائل لا تُرسل، وتُغلق هاتفها أيامًا كاملة، وترسم ابتسامة في وجه العالم وهي تبكي ليلًا.
في يوم الجريمة، لم تذهب سلمى إلى عملها، أغلقت على نفسها باب الشقة ورفضت الرد على مكالمات والدتها وصديقتها المقربة. الجيران سمعوا صوت مشادة في الليلة السابقة بين سلمى وشخص مجهول، لكن لم يتدخل أحد، فقد اعتقدوا أنها مكالمة هاتفية عابرة.
في صباح اليوم التالي، صعدت والدتها للاطمئنان عليها. طرقت الباب دون جدوى، فطلبت من حارس العقار كسر القفل. المشهد كان صادمًا: سلمى ملقاة على الأرض في غرفة المعيشة، عيناها مفتوحتان على اتساعهما، وورقة بجوار يدها اليمنى، عليها كلمات مبعثرة غير مكتملة… وكأنها قُطعت قبل أن تنهي رسالتها الأخيرة.
لكن لم تكن هذه نهاية الحكاية. عند وصول رجال المباحث، وُجدت آثار خدوش على معصمها، وكسور خفيفة في أصابع يدها، مما استبعد فرضية الانتحار. وتشير التحريات الأولية إلى وجود طرف ثالث دخل الشقة قبل ساعات من الوفاة، ثم خرج بهدوء، ولم يترك خلفه سوى ظلال الشك، وبابًا غير مكسور.
الجيران قالوا إنهم رأوا شابًا في أواخر العشرينات يخرج من العمارة في الساعة الثانية والنصف فجرًا، وكان يحمل حقيبة سوداء صغيرة. حين أُريَت صورته من كاميرات المراقبة لوالدة سلمى، تعرفت عليه فورًا: “ده زميلها في الشغل.. بس قالتلي مرة إنه بدأ يضايقها، وكانت ناوية تسيب الشغل عشانه.”
تم التحفظ على المشتبه به، وتبين أنه حذف محادثات بينه وبين سلمى قبل يومين من الحادث. لكنه، في التحقيقات، أنكر أي علاقة بالجريمة، مؤكدًا أنه لم يرَ سلمى منذ أسبوع.
الطب الشرعي أثبت أن الوفاة حدثت نتيجة خنق باستخدام قماشة ناعمة، ووجود خدوش على الرقبة تدل على محاولة مقاومة.
لكن يبقى السؤال الذي لم تجد له الأم إجابة حتى الآن:
ماذا كانت سلمى تنوي أن تكتب قبل أن تموت؟