غزة… المدينة التي تُصلّي تحت القصف، وتنهض من تحت الركام.

بقلم /الشاعرة والكاتبة الفلسطينية
سفيرة الإعلام العربي
السفيرة د. أحلام أبو السعود
حين تصحو غزة من نومها، لا تجد صباحًا…
لا شمسًا تتسلّل عبر النوافذ، ولا صوت عصافير يرنّ في الفجر.
تجد الغبار صاعدًا من ركام البيوت، ورائحة البارود معلّقة في الهواء كأنها صلاة لم تُجب.
في غزة، لا صوت للمنبهات، بل صراخ الأمهات ينادي شهداء لم يعودوا، وندبة الفقد تتسلل إلى كل بيت.
الأبواب هنا لا تفتح للضيوف، بل للجنازات.
المدارس مغلقة، ليس لأن العطلة حلّت، بل لأن المقاعد تكسّرت تحت أنقاض الحلم، والسبورة كُتب عليها آخر درس: “هذا وطن يُستشهد من أجله”.
المرض لا يُقاوَم بالدواء، بل بالصبر.
المستشفيات غرف انتظار للموت الرحيم، والأطباء يقاتلون بلا عتاد، والعيادات بلا نبض.
الدواء حلم، والحضن عجز، والدعاء هو آخر ما في الجعبة.
وفي الأزقّة الضيقة، حيث المجاري تفوح منها رائحة الإهمال، تمشي الخيام كأنها قبور، تستر العورات ولا تستر العذاب.
لا سقف يصدّ شمس الصيف، ولا حائط يردّ عنهم برد الشتاء.
الماء شحيح، والكهرباء زائرة عابرة، والفقر يسكن في عيون الأطفال.
وهؤلاء الأطفال…
لم يتعلّموا العدّ بالأرقام، بل بعدد الطائرات التي عبرت فوق رؤوسهم.
يعرفون أسماء الصواريخ أكثر من أسماء الألعاب، ويبحثون عن العيد في ظلّ والدٍ استُشهد، أو حضن أمٍ ثكلى فقدت كل ما تملك إلا حنانها.
تجلس أم الشهيد في طرف الخيمة، لا تبكي، فقد جفّ الدمع، ولا تصرخ، فقد انكسر الصوت…
تحدّق في صورة ابنها، كأنها تقرأ في ملامحه حكاية البطولة الأخيرة.
تقول: “كان حلمي أن أراه عريسًا، فإذا بي أزفّه إلى قبره…
لكنّه لم يمت، بل ارتقى… صار أعلى من أن يُدفن”.
بجانبها الطفل الناجي، يبحث عن وجه أمه في وجوه النساء، وعن يد أبيه في أيدي العابرين.
لم يعد يعرف معنى العيد، فالفرح استُشهد معه.
ومع هذا، يبتسم للسماء ويهمس: “أنا حيّ… لأنني الشاهد على الجريمة”.
أما الشهداء…
فهم ليسوا تحت التراب، بل فوق الذاكرة.
يسكنون الجدران، والقصائد، وهتاف المقاومين.
كل اسمٍ منهم نبض، كل صورة عهد، وكل ابتسامة وصيّة.
والمخيم…
ليس مأوى، بل حكاية.
كل خيط غسيل هو راية، كل جدار رسالة، وكل طفل فيه نبيّ الحلم الجديد.
فيه من الفقد ما لا يُكتب، ومن الصبر ما لا يُحصى، ومن الكبرياء ما يهزّ عروش العالم.
وفي الليل، حين تنام المدن، تصحو غزة على قذيفة، أو تنهيدة أمّ، أو صرخة مولودٍ جاء للحياة في وطنٍ يُولد فيه الأطفال مع شهادات الجراح.
ورغم كل شيء…
غزة لا تموت.
هي النخلة التي تواجه العاصفة واقفة.
هي الجرح المفتوح في جبين الصمت العربي.
هي القصيدة التي تكتب نفسها بدماء أطفالها، وتوزّع على الضمير العالمي كي يقرأ، إن أراد أن يقرأ.
غزة…
ليست مدينة، بل فكرة.
ليست مأساة، بل ملحمة.
هي الحبر الذي يُكتب به الشرف، والرماد الذي يُصاغ منه النور.