مقالات
أخر الأخبار

الطوفان الكبير..رواية الوعي والوجدان في زمن الاحتلال

 

بقلم محمد أكسم 

بلاشك أن الرواية تعد واحدة من أبرز الأشكال الأدبية التي تجسد الوعي الإنساني، وتوثق تحولات المجتمع وأصواته المتعددة.

 فهي المرآة التي تعكس صراعات الفرد، وتحولات الأمم، وتفاصيل الحياة في أكثر تجلياتها عمقًا وتعقيدًا.

 ولأن الرواية ليست مجرد حكاية تروى، بل مشروع فكري وفني متكامل، فإنها تزداد أهمية حين تكون مشتبكة مع قضايا الواقع، ومحملة بالأسئلة التي تشغل الإنسان في زمنه.

ومن بين الأصوات السردية البارزة في المشهد الأدبي العربي الحديث، يبرز اسم الدكتور عبد الرحيم درويش، الذي استطاع عبر أعماله أن يجمع بين الوعي الثقافي والالتزام الوطني والقدرة الفنية على البناء الروائي المتماسك.

 يتميز “درويش” بقلمه الرشيق، ورؤيته العميقة التي لا تكتفي بتسجيل الحدث، بل تغوص في جذوره، وتفتح أمام القارئ نوافذ عده لفهم أعمق للواقع وتحولاته.

والجدير بالذكر أن الدكتور عبد الرحيم درويش هو أستاذ الدراما في كليات الإعلام المصرية والعربية، وعضو اتحاد كتاب مصر منذ عام 2014.

وقد صدر له منذ عام 2006 اثنتا عشرة رواية وثلاث مجموعات قصصية، بالإضافة إلى مؤلفاته العلمية في مجال الإعلام.

حصل درويش على عدة جوائز أدبية مرموقة، من بينها جائزة إحسان عبد القدوس عن روايته “أنَّات الخريف” في عام 2020، وجائزة النشر ضمن مطبوعات اتحاد كتاب مصر عن رواية “موت الأحلام” في عام 2019.

كما نال جائزة الدكتور شرف الدين بلال العالمية للرواية عن روايته “أرواح جائعة”، والتي يعدُّها انتصارًا للإبداع العربي في مجال الرواية الاجتماعية الرومانسية.

وفي روايته “الطوفان الكبير” الصادرة عن دار حابى للنشر والتوزيع,يطرح الدكتور عبد الرحيم درويش عملاً أدبيًا يتجاوز حدود الرواية التقليدية، ليقدم سردًا محمّلًا بالشهادات الفكرية والسياسية والوجدانية حول القضية الفلسطينية، وعلاقتها بالوعي الغربي، لا سيما الأمريكي، وسط عالم يزداد فيه التحيز وتغيب فيه العدالة

تنتمي الرواية إلى نوع “الرواية الفكرية السياسية”.

 حيث تندمج الوقائع التاريخية بالتحليل الفكري والتفاعل الشخصي للشخصيات مع السياق العام.

 تدور الأحداث في الولايات المتحدة، وتبدأ في أعقاب “طوفان الأقصى” الذي يمثل شرارة الحدث.

 إلا أن الطوفان في الرواية ليس فقط فيزيائيًا أو ميدانيًا، بل رمزيًا أيضًا، يُظهر انهيار منظومة من المفاهيم، وتفجر وعيٍ جديد لدى الشخصيات

البنية السردية قائمة على تعدد الأصوات، وهو خيار أسلوبي ذكي، حيث يعرض المؤلف الرواية من خلال وجهات نظر مختلفة لشخصيات متنوعة دينيًا وثقافيًا. 

هناك “هنري سكوت” الأستاذ الجامعي الأمريكي الذي يمثل الوعي الأكاديمي الغربي المتذبذب، و”مصطفى البطينجي” الطالب المصري الحائر بين الواقع والانتماء، و”مازن النعيمي” الفلسطيني المجروح، و”ديفيد لي كاتز” الطالب اليهودي المتطرف.

 هذه التعددية تضيف للرواية بعدًا تركيبيًا متماسكًا وتمنح القارئ فرصة تأمل ذاتية مع كل وجهة نظر

تُبنى الشخصيات بعناية، لا من حيث العمق النفسي فحسب، بل في طريقة تموضعها داخل شبكة العلاقات الأيديولوجية والوجدانية. الشخصية الفلسطينية ـ مازن ـ تمثل صوت الضحية الذي لا يستسلم، بل يطرح سؤالًا فلسفيًا عن المعنى والعدالة والهوية.

 أما هنري سكوت، فيظهر كمرآة تعكس صدمة الغرب أمام عنف الواقع، وتُجبره على مراجعة “حياديته الأخلاقية” التي لم تعد كافية. مصطفى، من جهته، يمثل تيارًا من الشباب العربي المثقف، لكنه مأزوم، يعيش صراعًا داخليًا بين ما يراه وما يستطيع فعله

الصراع في الرواية ليس ثنائيًا فحسب (عرب–يهود أو شرق–غرب)، بل أكثر تعقيدًا. 

الكاتب العظيم عبد الرحيم درويش يدين النفاق السياسي، ويكشف هشاشة التحالفات الأكاديمية والثقافية التي تُجمّل الاحتلال أو تبرره تحت مسميات الحياد والتوازن

يكتب درويش بلغة عربية رصينة دون أن تفقد مرونتها، ويعتمد على التوازن بين الوصف والتأمل.

 لا يتورط في الزخرفة أو الإطالة، بل يسعى لإيصال الأفكار والمشاعر بوضوح ومباشرة، أحيانًا عبر حوار فلسفي وأحيانًا عبر تصوير مشاهد دامغة

وعن اللغة فهى ليست أداة للتوصيل فحسب بل وسيلة مقاومة أيضًا؛ حيث يظهر شغفه باللغة كأداة استنهاض للوعي الجمعي.

 يلاحظ استخدام المصطلحات السياسية والدينية دون انزلاق إلى الخطابية، مما يضفي طابعًا تحليليًا لا تعبوياً على النصي حمل عنوان الرواية “الطوفان الكبير” طابعًا رمزيًا ثريًا. 

فالطوفان قد يحيل إلى “طوفان نوح”، كحدث تطهيري وإعادة بناء، وقد يقرأ كإشارة إلى العملية العسكرية “طوفان الأقصى”، أو الطوفان النفسي الذي يجتاح الشخصيات.

 وقد يكون أيضًا نبوءة بانفجار مستقبلي قادم يطيح بالبنية الظالمة للعالم.

 هذا الانفتاح الرمزي يمنح الرواية أفقًا استشرافيًا فلسفيًا يجعلها تتجاوز اللحظة الراهنة إلى المستقبل.

الكاتب لا يخفي انحيازه الأخلاقي؛ إنه منحاز للحق، وللإنسان، وللعدالة.

 لكن روايته ليست شعاريه، بل تحليلية، تُفكك البنية الذهنية الغربية وتعيد مساءلتها من خلال أبطالها.

 كما تُبرز حالة الشتات العربي، لا فقط الجغرافي بل الفكري والوجداني، وتطرح ضرورة إعادة بناء الذات العربية على أسس من المقاومة الواعية.

script async src="https://pagead2.googlesyndication.com/pagead/js/adsbygoogle.js?client=ca-pub-6898956440328841" crossorigin="anonymous">
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى