
بقلم: د. أحلام محمد أبو السعود
سفيرة الإعلام العربي والباحثة في الشؤون الفلسطينية
غزة… قلعة تصدّع مشاريع الاقتلاع
لم يكن التهجير القسري مجرّد وسيلة حرب، بل أداة استعمارية تسعى إلى اقتلاع الإنسان من جذوره ومحو ذاكرته الجمعية. ومنذ النكبة حتى اليوم، أعاد الاحتلال إنتاج هذه السياسة بأشكال مختلفة، غير أنّ غزة بقيت القلعة التي تتحطم عندها المؤامرات، وتجعل من الثبات فعل مقاومة متجدد.
الصمود كفعل وعي وذاكرة
إنّ الصمود في غزة ليس ردّ فعل مؤقتًا، بل وعيًا راسخًا بأنّ التهجير يعني اغتيال الذات قبل الأرض. لذلك يحرس الفلسطينيون بدمائهم أكثر من بيوت وحقول: إنهم يحرسون هويةً وتاريخًا ورسالة أمة بأسرها. وهنا تتحول الخيام إلى قلاع كرامة، والمخيمات إلى جسور نحو العودة، لا بدائل عنها.
بين القانون والواقع
من منظور القانون الدولي، يُعدّ التهجير القسري جريمة حرب بموجب اتفاقيات جنيف الرابعة (1949) والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (المادة 7)، التي تجرّم النقل القسري للسكان باعتباره جريمة ضد الإنسانية. لكن غزة تثبت للعالم أنّ المقاومة ليست فقط في اللوائح والمواثيق، بل في الإرادة الشعبية التي ترفض الاستسلام، وفي الوعي الجماعي الذي يحوّل كل محاولة اقتلاع إلى فرصة جديدة لترسيخ معنى العودة.
الفشل أمام معادلة الإرادة
لقد فشل العدو في كسر إرادة الفلسطينيين لأنه واجه معادلة استثنائية: شعب محاصر يفتقد أبسط مقومات الحياة، لكنه يتشبّث بالكرامة والحياة الحرة. في غزة يصبح الركام شاهدًا على الإصرار، وتتحول الجراح إلى جدار صدّ يمنع تمرير المخطط الاستعماري. إنها المفارقة التي تجعل من غزة المحاصرة مدرسة عالمية للحرية.
الذاكرة التي لا تُغتال
التهجير القسري في فلسطين ليس مجرد جريمة ضد الأرض، بل محاولة لاغتيال الذاكرة. لكن الذاكرة هنا عصية على الاغتيال، لأنها محفورة في اللغة والأرض والأغاني الشعبية والوعي الجمعي. لقد أثبتت غزة أن الجغرافيا قد تُدمّر، أما الهوية فلا تُهزَم.
خاتمة
الوقوف الفلسطيني سدًا منيعًا في وجه التهجير القسري ليس مجرد فعل بقاء، بل إعلان تاريخي متجدد بأن الوطن لا يُساوَم عليه، وأن الحق لا يسقط بالتقادم. في هذا الثبات تتجلى البطولة المعاصرة، حيث يصبح الدفاع عن الكرامة قدرًا، ويغدو الحضور على الأرض أبلغ من أي خطاب.
إن غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا محاصرة، بل أيقونة إنسانية ومرآة للحرية، تعلم الأحرار أن الشعوب قادرة على صنع معجزتها حين تتحول الإرادة إلى سلاح، والثبات إلى موقف خالد.